المنهاج التربوي المغربي وسؤال الثقافة العلمية
- الكتاب المدرسي نموذجا –
- دراسة حالة -
بقلم: خالد زروال
يقع موضوع التربية في علاقته بسؤال الثقافة العلمية في إطار يتأرجح بين الإنتاج الرمزي المولد للأنساق التربوية المتضمنة للمرجعيات المجردة الطامحة لخلق جيل قادر على سبر أغوار التفكير العلمي في أفق خلق شروط تنمية حقيقية، وبين القوالب المادية الحسية التي تحول زخم النظرية إلى حقيقة سارية المفعول. والفرق بين اللحظتين يكمن أساسا في مؤشرات درجة التشبع بمبادئ العلم والعقل، التي تقاس بها تاريخية (historicité) أمة من الأمم.
فإلى أي حد يبدو منهاجنا التربوي المغربي، من خلال الكتاب المدرسي، مهيئا لخلق تلك القوالب المادية الحسية القادرة على تحويل زخم النظرية إلى حقيقة سارية المفعول؟ وبالتالي إلى أي حد يبدو كتابنا المدرسي هذا قادرا على الإسهام في إرساء معالم تفكير علمي عند ناشئتنا ؟
إنه الإشكال الذي سنحاول مقاربته بالدراسة والتحليل لحالة تربوية اشتغلنا خلالها على الكتاب المدرسي عبر مقتطف نص قرائي، مع ما يستدعي ذلك من اعتراف بكون الخلاصات التي خلصنا إليها يصعب تعميمها على الكتاب المدرسي بشكل عام، طامحين من وراء دراستنا هاته إبراز بعض الصعوبات التي لا يزال يواجهها منهاجنا المغربي في تقليص الهوة بين طموحه النظري، الذي يروم ترسيخ ثقافة علمية في صفوف مخرجات هذا المنهاج، وبين المقاومة التي قد يبديها واقع الممارسة البيداغوجية. ولعل هذه المقالة تحاول أن تلامس بعض جوانب تلك المقاومة وأسبابها.
في فقرة مقتطفة من نص قرائي تكميلي بعنوان "عقد من ورق" من كتاب مرشدي في اللغة العربية للسنة الثانية ابتدائي[1]، وردت العبارات التالية:
"نأتي بمجموعة أوراق ملونة أو صور من مجلات قديمة. نقوم بتقطيع أشكال هندسية كالآتي:
- مثلث قاعدته 1 سم وارتفاعه 4 سم.
- مستطيل طوله 4 سم وعرضه 1 سم.
بعد حصولنا على أعداد كثيرة من هذه الأشكال، نبدأ في تلفيف القطع بواسطة مؤخرة عود الثقاب على أساس أن نلف شكل المثلث من جهة القاعدة، ونلصق الجزء الأخير للشكل في الأخير باللصاق لنحصل على هذا الشكل وهو عبارة عن عقيق".
يبين هذا النص القرائي مدى الطفرة النوعية التي حققها الكتاب المدرسي، مستجيبا لرؤية حديثة تربط المعرفة بمجال التطبيق والاشتغال اليدوي، حيث أن التلميذ، بعد استيعاب هذا النص، سيكون مطالبا بالاشتغال اليدوي عليه، محولا مضامينه إلى أشكال هندسية متجانسة يبني من خلالها معنى معينا وملموسا (عقد من ورق). كما نسجل كذلك، عبر سيرورة المعرفة والتطبيق هاته حضور نظرة إبستيمولوجية واعية في إدراك المعرفة ككل متناغم، وذلك عبر إزالة الحواجز بين مكوناتها، حيث يمد النص جسورا بين تعلمات مكون القراءة ومكتسبات مادة الرياضيات. ولعل في ذلك المد محاولة لتجاوز المشاكل الجوهرية التي ظلت المعرفة تعانيها من خلال الفصل بين مكوناتها، أو ما يسميه إدغار موران: التخصص المغلق، الذي يمنع رؤية الشمولي حيث يقوم التخصص بتجزيئه إلى قطع مفصولة عن بعضها البعض[2].
غير أن كل تلك المحاسن التي نسجلها للنص لن تحجب عنا بعض المفارقات، التي لاحظناها عند دراستنا لهذه الحالة، بين الطريقة التي وردت بها بعض المفاهيم العلمية في هذا النص الموجه لتلاميذ السنة الثانية ابتدائي وبين التصور الإبستيمولوجي لبناء هذه المفاهيم.
1- في بناء المفاهيم العلمية
ورد في موسوعة روزنتال الفلسفية أن المفهوم هو شكل من أشكال انعكاس العالم في العقل، يمكن به معرفة الظواهر والعمليات وتعميم جوانبها وصفاتها الجوهرية، وهو نتاج معرفة متطورة تاريخيا ترتفع من الأدنى إلى الأعلى[3].
نستخلص من خلال قراءتنا الإبستيمولوجية لهذا التعريف أن المفهوم، والمعرفة العلمية بشكل عام، يحكمهما منطقان اثنان:
« المنطق الأول، دياكروني تاريخي[4]: ذلك أن المعرفة لها منبعها وسيرورتها التاريخية، وهو المسار الإبستيمولوجي الذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار أثناء تقديم أي معرفة للمتعلم. فالمفهوم تصور للعالم، لكنه ليس بالجامد أو النهائي، بل هو متحول ومتغير من مستوى أقل تعقيد إلى مستوى أكثر تعقيدا وتجريدا. بعبارة أخرى، فالمفهوم العلمي هو انبناء تاريخي وتكوين مستمر وليس مجرد معطى ميتا فيزيقي ينزل مرة واحدة في ذهن المتعلم، بل هو موضوع يتدفق تدريجيا وبشكل يزداد اتساعا وعمقا وتكاملا في سيرورة ومسار حلزونيين.
« المنطق الثاني، سانكروني بنيوي[5]: تفيد القراءة الإبستيمولوجية لتاريخ العلم، منذ نظرية المعرفة مرورا بفلسفة العلم وصولا إلى الإبستيمولوجيا المعاصرة، أن المفهوم هو انعكاس للعالم ولظواهره في العقل وتعميم لها، بدءا بالملاحظة ثم التجريب والتحقق، وهذا ما يعرف بالمنطق الصوري.
عبر هذين المنطقين، تنتظم المفاهيم لدى الطفل بشكل علمي عبر احترام تجربته الذاتية وتراكماته السابقة (المنطق التاريخي)، ومن خلال قيامه بملاحظات ومناولات ملموسة لظاهرة معرفية معينة، ثم مناقشتها قصد التحقق منها بشكل يجعلها تثبت في ذهنه (المنطق الصوري).
إذن، وفي ضوء هذا التحديد الإبستيمولوجي للمفهوم، سنحاول، من خلال متن النص القرائي الذي بين أيدينا، أن نسائل مدى قدرة الكتاب المدرسي ومنهاجنا المغربي على بناء المفاهيم لدى تلامذتنا وفق المنطقين الإبستيمولوجيين السابقين الذكر.
2- أي مقاربة للمفاهيم العلمية يقدمها الكتاب المدرسي ؟
يتضح من خلال قراءتنا للنص القرائي (عقد من ورق) أن المطلوب من متعلم السنة الثانية من التعليم الابتدائي هو الإتيان بأوراق ملونة، ثم محاولة تقطيع أشكال هندسية كالآتي:
- مثلث قاعدته 1 سم وارتفاعه 4 سم.
- مستطيل طوله 4 سم وعرضه 1 سم.
ثم يقوم بتلفيف هذه القطع بواسطة مؤخرة عود الثقاب على أساس لف شكل المثلث من جهة القاعدة.
نستخلص من خلال هذه التعليمة أن المهمة بالغة التعقيد: فمجرد إطلالة سريعة في مقرر مادة الرياضيات للسنة الثانية ابتدائي تطلعنا على أن تلميذ هذا المستوى لن يكون قادرا، في نهاية السنة، على أكثر من الاستئناس ببعض الأشكال الهندسية، مما يدعونا للتساؤل: كيف يمكن لهذا التلميذ، وهو يقرأ هذا النص، أن يستوعب مفاهيم من قبيل ارتفاع وقاعدة المثلث ؟ كيف يمكن لهذا المفهوم الانبناء في ظل غياب الشرط التاريخي اللازم ؟ إن تنزيله لأول مرة بهذه الطريقة، عبر نص قرائي تكميلي خارج مكون الرياضيات، لهو مبعث على مساءلة كتابنا المدرسي بشكل خاص، ومن خلاله منهاجنا التربوي بشكل عام، ومدى احتكامه إلى المعايير الإبستيمولوجية في تقديم المفاهيم. وبالتالي، إلى أي حد يبدو هذا المنهاج قادرا على زرع روح التفكير العلمي في ناشئتنا، في مرحلة جد حساسة من تاريخ بنيتها الذهنية ؟
التساؤل يعظم والإشكال يستفحل عندما نواصل قراءة هذا النص التكميلي لنكتشف أن المطلوب من المتعلم أن يحول ما قرأه إلى تطبيقات هندسية ؟! إذ كيف يمكن لمتعلم لم يستوعب نصا أن يحوله من مستوى القراءة إلى مستوى الفعل والتشكيل الهندسي ؟! كيف لمتعلم وجد نفسه فجأة، ولأول مرة، أمام مفاهيم هندسية من قبيل "الارتفاع"، "القاعدة"، "الطول"، «العرض"... أقحمت قسرا خارج تاريخه الذهني، أن يحولها إلى أشكال هندسية دقيقة القياس على ورقة وهو لا زال يحاول التموقع في فضاء قسمه ؟! إن الأمر هنا يتعلق بأعلى درجات تعميم المفاهيم، فالمعروف أن تطبيق المفهوم درجة متقدمة من تعميمه، لابد أن تسبقه مراحل الملاحظة والاكتشاف ثم التجريب والتحقق عبر مناولات ملموسة، وهو ما لم يتوفر لتلميذ السنة الثانية في مجال مفاهيم الهندسة.
ومن هذا المنطلق يبدو لنا غياب ذلك المنطق الصوري الذي تحدثنا عنه كأساس في بناء المعارف والمفاهيم. وهو الغياب الذي سجلناه كذلك بخصوص المنطق التاريخي، حين أكدنا على كون مفهوم الارتفاع والقاعدة وغيرهما هي مفاهيم أقحمت بجرأة غريبة في هذا النص القرائي دون سابق إخبار، فتلميذ السنة الثانية لم يدرك بعد أبسط خصائص مفهوم المثلث كشكل هندسي: يتكون من ثلاثة أضلاع، فكيف له أن يدرك خصائص أكثر تجريد من قبيل الارتفاع والقاعدة ؟! والنتيجة أن هذه الخصائص ستظل بالنسبة له بدون معنى، وسوف تؤثث ذاكرته دون أن تجد لها مقاما في بنيته الذهنية. ومن ثم، يستحيل تحويلها إلى رسوم هندسية باعتبار هذه الرسوم أعلى درجات تعميم مفهوم المثلث بكل خصائصه: الأضلاع، الارتفاع، القاعدة.
استنتاجات وحلول مقترحة
نستنتج أن إدراج هذا النص داخل مكون القراءة للسنة الثانية لم يخل من مجازفة، إذ لم يقم على الأسس العلمية والإبستيمولوجية الكافية. كما يبدو كذلك أن الأستاذ الذي سيقدم على تقديم هذا النص دون تصرف ديداكتيكي، بشكل يلائم مستوى متعلميه غير واع بالأسس الإبستيمولوجية للمعرفة مثلما أوردناها في التقديم النظري لهذه الدراسة، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل وبإلحاح: أي دور يمكن أن يقدمه أستاذ التعليم الابتدائي في بناء المفاهيم لدى الطفل المغربي؟ وبالتالي في زرع بذور التفكير العلمي لدى هذا الطفل؟ الأمر الذي يعطينا الشرعية في تساؤل آخر حول مستوى التكوين الأكاديمي والبيداغوجي لهذا الأستاذ ؟!
إن الرهان على ترسيخ الثقافة العلمية في فضاءاتنا المدرسية، في أفق توجيه ثلثي تلامذتنا نحو الشعب العلمية، رهان لا يمكن كسبه إلا من خلال احترام المداخل الإبستيمولوجية لتشكل المعرفة العلمية التاريخي منها والصوري، وهو ما يقتضي:
« إعادة النظر في المفاهيم المقدمة بمدرستنا الابتدائية وطريقة تقديمها، كما يقتضي بالضرورة إعادة النظر في مواصفات فئة التدريس بهذه المدرسة، وتمكينها من تكوين أساسي متين يجمع بين ما هو أكاديمي وما هو بيداغوجي. وفي هذا الإطار، نثمن طموح المخطط الاستعجالي في إلحاق مراكز التكوين بالتعليم الجامعي، حيث ضرورة مرور الطلبة الأساتذة بمسالك علوم التربية.
« تأهيل فضاءاتنا المدرسية بشكل يجعلها تنمي في ناشئتنا آليات التفكير العلمي من ملاحظة واكتشاف وتجريب وتحقق. وقبل هذا وذاك، لابد من إعادة التفكير في الحياة المدرسية من أجل خلق مناخ للنقد وإعمال العقل، وذلك بانخراط الجميع: فاعلون تربويون، مجتمع مدني... في أفق صناعة اللحظة التاريخية الملائمة لتجاوز الاختلال والانفصام الواضح في مناهجنا التربوية بين الأنساق النظرية الطامحة لركوب ناصية العلم، وبين القوالب المادية الحسية الكفيلة بتحويل زخم النظرية إلى حقيقة سارية المفعول. فالأمر إذن يحيلنا على مطلب سوسيولوجي كبير، مفاده أنه لتوجيه تلامذتنا نحو الشعب العلمية الضامنة لكسب رهان التنمية، لابد من تغيير في النسق الثقافي لمجتمعنا من نسق يكرس قيم التقليد والحفظ والتعليم القائم على تأثيث الذاكرة، إلى نسق ثقافي أساسه النقد والتفكير العلمي الموجه بعملية التوليد المستمر للأسئلة، حيث لا تنمية بدون فكر ولا نهضة بدون عقل ناهض على حد تعبير المفكر والإبستيمولوجي المغربي الكبير محمد عابد الجابري.
[1] مجموعة من المؤلفين، مرشدي في اللغة العربية للسنة الثانية الابتدائية، منشورات أفريقيا الشرق، 2009.
[2] موران إدغار، المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل، الفصل الثاني: مبادئ من أجل معرفة ملائمة، ترجمة لزرق عزيز والحجوجي منير، دار توبقال للنشر واليونسكو، ص 40.
[3] عامر عبد الحق، عالم المفاهيم عند الطفل، مجلة الرسالة التربوية، الرباط، منشورات مركز تكوين مفتشي التعليم، العدد 17، 1984، ص 81، عن موسوعة روزنتال، ب. يودين، الموسوعة الفلسفية ترجمة سمير كرم، د الطبيعة ط 2، بيروت، 1980.
[4] بنعبد العالي عبد السلام ويفوت سالم، درس الإبستيمولوجيا، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 1985، ص 57.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire