mardi 25 janvier 2011

"المساواة بين الجنسين"
بين رهان الخطاب و أسئلة الواقع
خالد زروال،مراد دحاني،مصطفى بتي،صالح العسكري،مصطفى العامري"
طلبة مفتشون:المركز الوطني لتكوين مفتشي التعليم


"لا يأتي المرء إلى هذا العالم كمرأة، بل يجعلون منه كذلك"
سيمون دو بوفوار: العادات والجنس عند المرأة

"المساواة بين الجنسين": عبارة كثيرا ما نسمعها حتى كادت تصير شعارا، ووظيفة الشعار بتعبير "أوليفي روبول" إيديولوجية "حالمة"، تريد أن تجعل المخاطب يعيش مضمون هذا الشعار على مستوى الحلم "إيديولوجيا"، اكثر مما يعيشه على مستوى الواقع.
هو حكم يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ، ونحن لا نحمل أحكاما بقدر ما نفتح أسئلة؟
ما المقصود بهذه العبارة "المساواة بين الجنسين"؟ ذلك ما نود الإجابة عنه، إن كان الجواب ممكنا، أما الحكم بكون العبارة شعارا أم لا فذلك ليس من اهتمامات هذا العرض.
المساواة بين الجنسين تعني بكل بساطة هدم الفروق بين هذين الجنسين و هو ما يقتضي معرفة طبيعة هذه الفروق و أصلها.
طبيعة الفروق بين الجنسين:
تجملها "شتيفان" فيما يلي: غالبا ما توصف المرأة بصفات من قبيل: العاطفية والسلبية، والاهتمام بالأشخاص، والإتقان و الشعور بالواجب وضبط النفس، والاستعداد للمساعدة و الطاعة والخضوع والترتيب والأعمال التكرارية، الأعمال الرتيبة والمهارة اليدوية والشعور الضعيف بالذات...إلخ.
هي كلها مقدمات لمداخل تكريس الفروق بين الجنسين، وهي كثيرة، سنقتصر على أهمها على الإطلاق وهو "التقسيم الاجتماعي للعمل".
أصل الفروق بين الجنسين:
فهل تلك المميزات التي توصف بها المرأة سبب أم نتيجة للتقسيم الاجتماعي الجنساني للعمل؟ هل هي فطرية أصلية في المرأة؟ أم انها مكتسبة و نتيجة لهذا التقسيم قبل أن تكون سببا فيه؟
اتجاهان مختلفان:
  •  الإتجاه البيولوجي: 
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن هذه الفروق فطرية  فالمرأة لها استعداد بيولوجي يؤهلها لتقبل تلك الصفات المميزة لها "عاطفية مثلا" ومن تم يؤهلها في اطار التقسيم الاجتماعي للعمل لتقبل أدوار بعينها دون أخرى: خاصة اعمال الامومة وما يتصل بها من أعمال البيت و بعض الادوار الاجتماعية الثانوية التي تتناسب و تكوينها البيولوجي من قبيل 'ممرضة، معلمة.." أما وظائف الإنتاج الاجتماعي الأساسية فهي من اختصاص الرجل نظرا لاستعداداته ككائن عقلاني و مؤهل جسمانيا لتحمل تلك الأدوار.
  • الاتجاه الاجتماعي:
يذهب هذا الاتجاه إلى اعتبار "فطرية" الفوارق بين الجنسين أمرا إيديولوجيا مرفوضا من الناحية العلمية، ويرجع تلك الفوارق إلى عوامل ثقافية و اجتماعية.

كيف ذلك؟
كل السمات المتصلة بالمرأة ناتجة عن فعل اجتماعي تربوي يبدأ منذ الشهور الأولى في إعداد الأنثى لتقبل أدوار دونية لصالح الذكر، يبدأ الأمر مع الرضاعة و يستمر عند اللعب "مليسا هاينز: جنوسة الدماغ" ولدى برامج التلفاز ...إنها اتجاهات ثقافية نحو إعداد الفتاة للعب أدوار إعادة الإنتاج "أعمال البيت" و بعض الأدوار الهامشية في مجال الإنتاج لصالح الرجل الذي يهيأ للعب ادوار الانتاج داخل المجتمع. والنتيجة إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية الجنسانية التي تكرس هيمنة الرجل عن طريق تمكينه من وسائل الإنتاج.
إذن سيادة الرجل لا تعود إلى عوامل بيولوجية بقدر ما هي نتاج لعوامل اجتماعية تحددها علاقات الانتاج السائدة في مجتمع تكون فيها وسائل الإنتاج لصالح الرجل وهو ما نجده في المجتمعات البطريركية.
نستنتج كذلك أن المرأة بدورها بإمكانها أن تسود في مجتمع ما على حساب الرجل كلما تمكنت من امتلاك وسائل الإنتاج "وهو ما لا يسمح به المجتمع البطريركي" في حين كان ممكنا في المجتمعات المطريركية على غرار المجتمعات البدائية التي كانت فيها علاقات الانتاج لصالح المرأة، في هذه النقطة لا تتفق الباحثة الألمانية" أورزولاشوي" مع "انجلز" والنظرية الماركسية عموما، حين اعتبر المجتمعات البطريركية  تطورا تاريخيا للمجتمعات المطريركية، ذلك انه ،في نظر الباحثة، بإمكاننا أن نجد مجتمعا مطريركيا في أي لحظة من التاريخ، وهو ما اكدته أبحاث مارغريت ميد: ففي قبائل غينيا مثلا النساء لا يتفوق عليهن الرجال لا في ضخامة الجسم ولا في قوته، وانهن كن يقمن بنشاطات تعتبر لدينا رجالية خالصة" الحراثة و صيد الأسماك مثلا"
خلاصات:
السمات التي تنعت بها المرأة ليست سببا بيولوجيا لما يوكل إليها من الأدوار، بل هي نتيجة لتنشئة اجتماعية تبدأ مند الطفولة الاولى و تهيئ كل جنس للعب دور منمط لم يختره لذاته، تنشئة تجعل من الفتاة مستعدة لقبول نظرة دونية للمجتمع إزائها بل هي نفسها تكرس بعضا من مكونات تلك النظرة" نجد في كثير من المواقف بعض النساء يؤكدن دونيتهن، بوعي أو عن غير وعي، "أنا غير امرأة ولية"
صحيح ان الطبيعة لها دورها فقد اكدت التجارب العلمية ان "العاطفة" كأحد سمات الانوثة لها ما يبررها بيولوجيا، لكن ذلك لا يمنع من كون الثقافة و التنشئة الاجتماعية لها دور حاسم في تنمية تلك الاستعدادات أو العكس.
إن التربية لها دور حاسم كذلك في إعطاء كلا الجنسين  فرص اقتحام كل المجالات دون ان تبقى حكرا على هذا الجنس او ذاك، فمعلوم ان توجيه الأطفال الإناث  إلى ألعاب بعينها دون الفتيان ينمط تفكيرهن ويسد امام عقولهن فرص الإبداع في مجالات ذكورية" جنوسة الدماغ ، ميليسا هاينز" .

إن تحقيق المساواة بين الجنسين يتطلب إعادة الاعتبار لعمل المرأة في مجال إعادة الإنتاج "أعمال البيت" و هو العمل الذي لا تعتبره الرأسمالية عملا مأجورا ، على الرغم من أهميته الاجتماعية، وبالتالي  فهي تحرم المرأة من امتلاك وسائل للإنتاج تسمح لها بفرص حقيقية للمساواة مع الرجل . فما معنى ان ننادي بحقوق المرأة و مساواتها مع الرجل في ظل غبن حقها في أجرة مستحقة على عملها في مجال الأمومة و ما يرتبط بها من أشغال البيت.







في نظرية المعرفة: الأسس و المؤاخذات 
                                     بقلم:خالد زروال                                                              
    نستطيع أن نقول إن الميلاد "الرسمي" لنظرية المعرفة كان مع ظهور المشروع الكانطي لنقد العقل. لا يعني هذا أننا لا نستطيع أن نجد عند الفلاسفة السابقين على كانط بحوثا في المعرفة.  كل ما نقصده  أن السؤال المخصص لمبحث المعرفة سيظهر لأول مرة في تاريخ الفلسفة مع كانط. أراد كانط أن يطرق في الفلسفة و في ميدانها النظري، أي خارج الأخلاق و الجمال، أراد أن يطرق مشكلة واحدة هي مسألة المعرفة، مشكل المعرفة هو ما يقابل في التاريخ الفلسفي مشكل الوجود و مشكل القيم، والمعروف أن ذلك المشكل يبحث في وسائل المعرفة وتحديد الموضوعات التي تنطبق عليها تلك الوسائل لتقويم المعرفة وتأسيسها[1].              
    إن كل إشكالية عامة تقوم حول تصور أساس يرتبط بها، فإذا كان ذلك التصور بالنسبة للمنطق مثلا هو الزوج : صورة – مادة، وبالنسبة لمبحث الأنطولوجيا هو الزوج : جوهر – عرض، فإن التصور الأساس  للإشكالية العامة لنظرية المعرفة هو الزوج : ذات – موضوع.  كل نظرية من نظريات المعرفة حاولت أن تموقع المعرفة في علاقتها بهذا الزوج،  وذلك  بالرجوع إما إلى المنطق أو إلى السيكولوجيا أو إلى الانطولوجيا[2].  تتساءل نظرية المعرفة إذن عن إمكانية معرفة الذات للموضوع،  وإن هي أثبتت تلك الإمكانية تبحث في أدواتها ثم في حدودها ومدى صلاحيتها، إنها تبحث في طبيعة المعرفة ووسيلتها و قيمتها.           
فكيف تصورت هذه النظرية موضوعها "المعرفة"؟ وما هي حدود هذا التصور؟               
     ينقسم الفلاسفة في إطار نظرية المعرفة إلى اتجاهين أساسيين وسما، بشكل كبير، تاريخ هذه النظرية :
      الاتجاه الأول، يربط المعرفة بعوامل تتصل بالذات باعتبارها مصدر كل معرفة ممكنة، ويجد هذا   الاتجاه جذوره في الفكر اليوناني الذي رفع من قيمة الإنسان كذات واعية و مفكرة، كما نجد امتداداته مع عصر الأنوار، حيث سيشكل "مبدأ الذاتية"  الاساس الفلسفي للحداثة، و حيث الذات المفكرة مركز الكون ومحددة لكل الاشياء من حولها، وهو الاتجاه الذي عرف بالعقلاني،  والذي جعل من العقل مصدر كل معرفة ممكنة، ويمكن أن ندرج في هذا الاتجاه كل من ديكارت، ليبتز، تشو مسكي..                    
         الاتجاه الثاني، وفي مقابل الأول، يرى أصل المعارف الحقيقية خارج  ذواتنا، وعلينا أن نبحث عنها في الموضوعات من حولنا، وهو الاتجاه الذي عرف بالتجريبي، متأثرا بالفلسفة الوضعية،  فالحقائق ينبغي اكتشافها عن طريق التجربة التي لا تركن إلى أوهام الذات وأفكارها المسبقة .                                 
        وبين هذين الاتجاهين يتموقع  اتجاه ثالث، حاول أن يرجع أصل المعرفة إلى كلي طرفي الزوج : ذات – موضوع، وهو الاتجاه الذي يعتبر المعرفة انبناء  ناتجا عن تفاعل الذات مع موضوع المعرفة، و لذلك سمي  بالاتجاه البنائي  ورائده السويسري "جان بياجيه"، والحقيقة أن هناك من يعتبر هذا الاتجاه امتدادا للمشروع الكانطي حول نظرية المعرفة في إطار ما سمي ب "النيو كانطية".                                             
        غير أن الحديث عن بياجيه، في نظر الكثيرين من الباحثين في مجال الإبستمولوجيا،  حديث يدعو إلى إعادة النظر في ما كان يعرف بنظرية المعرفة  و في نظرتها إلى المعرفة كموضوع للتفكير، ترى أي جديد حمله بياجيه في هذا الصدد؟                                                                                  
        لقد حاول بياجيه أن يؤسس لنظرة جديدة إزاء المعرفة، نظرة حاولت البحث في الميكانيزم الفعلي الذي يخضع له إنتاج المعارف، وهو الأمر الذي لم تبحث فيه نظرية المعرفة طوال تاريخها، ذلك أن هذه النظرية ظلت، قبل أبحاث بياجيه، تتأمل من خارج الشروط القبلية التي تضمن إمكانية المعرفة، و أخذت تتحدث عن عملية المعرفة من خلال أسئلة لم تكن نابعة من صميم المعرفة ذاتها، فقسمت عناصرها إلى ذات عارفة ثم موضوع معرفي، وهو التقسيم الذي اعتبره  "ألتوسير" وهميا  لأنه تم من خارج المنطق الذي يحكم المعرفة، في هذا الصدد يقول ألتوسير:" نفترض هنا  ذاتا و موضوعا  وهميين يكون عليهما أن يأخذا الظروف الحقيقية والميكانيزم الفعلي لتاريخ إنتاج المعارف كي يخضعاهما لغايات دينية، أخلاقية وسياسية"[3] .           
        الأكيد، أن بياجيه، سيفطن إلى ما نبه إليه  "ألتوسير"،  وسيحاول تجاوز نظرية المعرفة التقليدية، باحثا في المنطق الذي يحكم المعرفة من الداخل في إطار نظرة سيكولوجية  حول هذه المعرفة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح : إلى أي حد بقي بياجيه نفسه في مأمن من "الإيديولوجي"؟؟  كيف نفسر رفضه إدخال كل ما هو "اجتماعي" في تفسير انبناء المعرفة و تشكلها؟  هل يرجع ذلك فقط إلى الميكانيزم الداخلي لهذه المعرفة؟  أم أن الأمر يعود إلى اعتبارات أخرى من خارجها، اعتبارات خضعت هي الأخرى لما هو إيديولوجي ارتبط باللحظة التاريخية التي أفرزت بياجيه وأبحاثه حول المعرفة؟                                          
       أسئلة من بين أخرى، كثيرة، ستطرحها تأملات لاحقة حول المعرفة و خباياها، خاصة مع رواد "التفكيكية"، في إطار تشريح جينيا لوجي للمعرفة  سيكشف الغطاء عن تلك الخبايا و رهانات السلطة التي تحكمها، على حد تعبير ميشيل فوكو[4].                                                                          



[1] - عبد السلام بنعبد العالي و سالم يفوت،(1985)، درس الإبستيمولوجيا ، دار توبقال للنشر، البيضاء، ص. 11.
[2] - المرجع نفسه. ص. 12.
[3] - Althusser(L)‚ Lire le capital ‚ op. Cité T1. p.66. 
   -[4] ميشيل فوكو، المعرفة و السلطة،ترجمة عبد العزيز العيادي، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، بيروت.
بودنيب ... الصامدة
بقلم: خالد زروال


 من داخل هذا المجال الجغرافي الفقير، والذي لم تسعف الظروف التاريخية أهله كي يبدعوا فيه ويدبروه، حيث رمزية المكان يغيب فيها ذلك التناغم المنشود بين الفضاء والسلطة والهوية، نشأت بودنيب شبه الحاضرة حاضرة في ذاكرة الأهل والهوية، غائبة في ذاكرة السلطة منذ واقعة الصخيرات. صمدت بودنيب طوال سنين تضمد جراحها المتعفنة، ولا شيء تغير أو بدا كذلك....
كنت ولا أزال أتذكر بودنيب، كما يتذكرها كل أبنائها جيلا بعد جيل وكأن الزمن توقف في هذا المكان. تبدو بودنيب، ومنذ أمد طويل، خارج التاريخ.

في أيام العطلة الدراسية، عندما كنت أزور بودنيب بداية تسعينات القرن الماضي، أذكر أننا، نحن الصبية والشباب، كنا ننتظر مغيب الشمس كي يعلن إيقاظ مصابيح البيوت من سباتها بعد أن نسمع زفير محرك الديازل، الذي لا تستقيم لنا فرحة إلا بسماع صوته الخشن، فرحة لا تستمر لأكثر من ساعات أربع قبل أن يعاود المحرك الصمت معلنا نهاية فترة النور واستئناف زمن الظلام.
على ضفاف وادي النعام، وعلى بعد 5 كيلومترات إلى الشرق من مركز بودنيب، يقف إغرم الطاوس منذ مطلع القرن العشرين (1905) شاهدا على نزوح أحد فروع (إغص) قبيلة أيت عطا.
لا أذكر من الطاوس، ذلك الجذر الساكن في سكنات الذات المعتزة تارة والمتألمة أخرى بضرر السنين، سنين الحيف، لا أذكر سوى تلك اللحظات الجميلة التي كنت أرحل خلالها إلى إغرم بعد تحصيل دراسي جيد، كان الوالد عمر أزروال غالبا ما يقابله بفرحة واعتزاز، فيجود من جيبه المتعب، الذي لا تنعشه إلا دريهمات الموظف البسيط، يجود منها علي بثمن الرحلة كي أزور تامازيرت.

في منزل طيني بسيط، في زقاق مظلم عميق، كنت أقضي العطلة الدراسية، لا زلت أحفظ في ثنايا داخلي، أشياء كثيرة عن الحياة وعن المعاني التي يعطيها الناس للأشياء في إغرم، كيف يتوزع المجال بكل رمزيته بين الرجال والنساء والأطفال... النسوة يعدن محملات من تغدوين بالبرسيم، الرجال وهم يشقون الأرض أو يسقونها، أطفال الحارات في ألعابهم الترابية التي لا تنتهي إلا بسماع منبه سيارة تثير الدهشة والانبهار كلما قدمت إلى إغرم، شاب يجلس قرب فتاة في حقل، وقد وضعت جانبا تحرويت وأخذت تمكرت منهمكة في جمع الحشائش بحركة يدوية لا تنقطع ورأس مطأطئة لا ترتفع، إلا برهة تأخذ فيها الفتاة أنفاسها لتجيب، في حشمة، عن سؤال بعد أن يكد الشاب في الإلحاح على طرحه.
ليس أجمل من أن أستيقظ باكرا أتأمل الشمس الجديدة تأتيني من القرى المجاورة تمسح عن إغرم كسل الليل حتى تصل إلى أعشاش عصافيرنا لتستيقظ كأول مخلوق يعشق النور.
لم أكن أمل سماع ثغاء النعاج عند الغروب، ونهيق الحمير وصياح الزرزور المارق، كل مساء، تحت الأسوار، قبل أن أهرع إلى البيت كلما بدا لي من بعيد رجل يعود من خلوته كل مساء، إنه موح غَّا، وهو رجل فقد عقله منذ صباه في ظروف تختلف الروايات حولها.

تمردولت، ذلك الفضاء الرمزي بكل دلالاته التاريخية والأنتروبولوجية. تمردولت الذاكرة الشعبية لأهالي إغرم، حيث الأعراس والأفراح. كم كنت أسعد بحضور طقوس الاستعدادات حيث تتهيأ تمردولت لاستقبال تمغرا نايت فلان، حيث أحيدوس لا يسكته إلا صوت المؤذن معلنا في الناس صلاة الفجر.
أحيدوس، تلك السمفونية الأمازيغية، على إيقاع نسمات الصحراء التي تتجاذب أوراق النخيل لتعانق أنغام الطبيعة ألحان الثقافة.

بودنيب، الطاوس... الذاكرة الموشومة بصفحات التاريخ، بكل أفراحها ومعانيها الجميلة التي توقظ في الناس هممهم واستشرافهم للمستقبل، على الرغم مما يخلفه، بين الفينة والأخرى، ومن داخل هذا التاريخ، وقع السنين العجاف، حين عز الماء وحين تجبر البشر، تاركا بودنيب في جراح لن يجبرها جبر الضرر، وضرر البلاد لا يجبره إلا عزم الأولاد، وأولادك يا بودنيب رجال في كل مكان، اخترقوا كل مجال، أبوا إلا أن يسمعوا صوتك الذي لطالما أخرسه طيش الطائشين وعبث العابثين.      
المنهاج التربوي المغربي وسؤال الثقافة العلمية
-  الكتاب المدرسي نموذجا –
- دراسة حالة -

بقلم: خالد زروال

يقع موضوع التربية في علاقته بسؤال الثقافة العلمية في إطار يتأرجح بين الإنتاج الرمزي المولد للأنساق التربوية المتضمنة للمرجعيات المجردة الطامحة لخلق جيل قادر على سبر أغوار التفكير العلمي في أفق خلق شروط تنمية حقيقية، وبين القوالب المادية الحسية التي تحول زخم النظرية إلى حقيقة سارية المفعول. والفرق بين اللحظتين يكمن أساسا في مؤشرات درجة التشبع بمبادئ العلم والعقل، التي تقاس بها تاريخية (historicité) أمة من الأمم.

فإلى أي حد يبدو منهاجنا التربوي المغربي، من خلال الكتاب المدرسي، مهيئا لخلق تلك القوالب المادية الحسية القادرة على تحويل زخم النظرية إلى حقيقة سارية المفعول؟ وبالتالي إلى أي حد يبدو كتابنا المدرسي هذا قادرا على الإسهام في إرساء معالم تفكير علمي عند ناشئتنا ؟

إنه الإشكال الذي سنحاول مقاربته بالدراسة والتحليل لحالة تربوية اشتغلنا خلالها على الكتاب المدرسي عبر مقتطف نص قرائي، مع ما يستدعي ذلك من اعتراف بكون الخلاصات التي خلصنا إليها يصعب تعميمها على الكتاب المدرسي بشكل عام، طامحين من وراء دراستنا هاته إبراز بعض الصعوبات التي لا يزال يواجهها منهاجنا المغربي في تقليص الهوة بين طموحه النظري، الذي يروم ترسيخ ثقافة علمية في صفوف مخرجات هذا المنهاج، وبين المقاومة التي قد يبديها واقع الممارسة البيداغوجية. ولعل هذه المقالة تحاول أن تلامس بعض جوانب تلك المقاومة وأسبابها.

في فقرة مقتطفة من نص قرائي تكميلي بعنوان "عقد من ورق" من كتاب مرشدي في اللغة العربية للسنة الثانية ابتدائي[1]، وردت العبارات التالية:
"نأتي بمجموعة أوراق ملونة أو صور من مجلات قديمة. نقوم بتقطيع أشكال هندسية كالآتي:
-        مثلث قاعدته 1 سم وارتفاعه 4 سم.
-        مستطيل طوله 4 سم وعرضه 1 سم.
بعد حصولنا على أعداد كثيرة من هذه الأشكال، نبدأ في تلفيف القطع بواسطة مؤخرة عود الثقاب على أساس أن نلف شكل المثلث من جهة القاعدة، ونلصق الجزء الأخير للشكل في الأخير باللصاق لنحصل على هذا الشكل وهو عبارة عن عقيق".
يبين هذا النص القرائي مدى الطفرة النوعية التي حققها الكتاب المدرسي، مستجيبا لرؤية حديثة تربط المعرفة بمجال التطبيق والاشتغال اليدوي، حيث أن التلميذ، بعد استيعاب هذا النص، سيكون مطالبا بالاشتغال اليدوي عليه، محولا مضامينه إلى أشكال هندسية متجانسة يبني من خلالها معنى معينا وملموسا (عقد من ورق). كما نسجل كذلك، عبر سيرورة المعرفة والتطبيق هاته حضور نظرة إبستيمولوجية واعية في إدراك المعرفة ككل متناغم، وذلك عبر إزالة الحواجز بين مكوناتها، حيث يمد النص جسورا بين تعلمات مكون القراءة ومكتسبات مادة الرياضيات. ولعل في ذلك المد محاولة لتجاوز المشاكل الجوهرية التي ظلت المعرفة تعانيها من خلال الفصل بين مكوناتها، أو ما يسميه إدغار موران: التخصص المغلق، الذي يمنع رؤية الشمولي حيث يقوم التخصص بتجزيئه إلى قطع مفصولة عن بعضها البعض[2].
غير أن كل تلك المحاسن التي نسجلها للنص لن تحجب عنا بعض المفارقات، التي لاحظناها عند دراستنا لهذه الحالة، بين الطريقة التي وردت بها بعض المفاهيم العلمية في هذا النص الموجه لتلاميذ السنة الثانية ابتدائي وبين التصور الإبستيمولوجي لبناء هذه المفاهيم.  

1-      في بناء المفاهيم العلمية

ورد في موسوعة روزنتال الفلسفية أن المفهوم هو شكل من أشكال انعكاس العالم في العقل، يمكن به معرفة الظواهر والعمليات وتعميم جوانبها وصفاتها الجوهرية، وهو نتاج معرفة متطورة تاريخيا ترتفع من الأدنى إلى الأعلى[3].
نستخلص من خلال قراءتنا الإبستيمولوجية لهذا التعريف أن المفهوم، والمعرفة العلمية بشكل عام، يحكمهما منطقان اثنان:
«    المنطق الأول، دياكروني تاريخي[4]: ذلك أن المعرفة لها منبعها وسيرورتها التاريخية، وهو المسار الإبستيمولوجي الذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار أثناء تقديم أي معرفة للمتعلم. فالمفهوم تصور للعالم، لكنه ليس بالجامد أو النهائي، بل هو متحول ومتغير من مستوى أقل تعقيد إلى مستوى أكثر تعقيدا وتجريدا. بعبارة أخرى، فالمفهوم العلمي هو انبناء تاريخي وتكوين مستمر وليس مجرد معطى ميتا فيزيقي ينزل مرة واحدة في ذهن المتعلم، بل هو موضوع يتدفق تدريجيا وبشكل يزداد اتساعا وعمقا وتكاملا في سيرورة ومسار حلزونيين.

«    المنطق الثاني، سانكروني بنيوي[5]: تفيد القراءة الإبستيمولوجية لتاريخ العلم، منذ نظرية المعرفة مرورا بفلسفة العلم وصولا إلى الإبستيمولوجيا المعاصرة، أن المفهوم هو انعكاس للعالم ولظواهره في العقل وتعميم لها، بدءا بالملاحظة ثم التجريب والتحقق، وهذا ما يعرف بالمنطق الصوري.

عبر هذين المنطقين، تنتظم المفاهيم لدى الطفل بشكل علمي عبر احترام تجربته الذاتية وتراكماته السابقة (المنطق التاريخي)، ومن خلال قيامه بملاحظات ومناولات ملموسة لظاهرة معرفية معينة، ثم مناقشتها قصد التحقق منها بشكل يجعلها تثبت في ذهنه (المنطق الصوري).
إذن، وفي ضوء هذا التحديد الإبستيمولوجي للمفهوم، سنحاول، من خلال متن النص القرائي الذي بين أيدينا، أن نسائل مدى قدرة الكتاب المدرسي ومنهاجنا المغربي على بناء المفاهيم لدى تلامذتنا وفق المنطقين الإبستيمولوجيين السابقين الذكر.  

2-   أي مقاربة للمفاهيم العلمية يقدمها الكتاب المدرسي ؟

يتضح من خلال قراءتنا للنص القرائي (عقد من ورق) أن المطلوب من متعلم السنة الثانية من التعليم الابتدائي هو الإتيان بأوراق ملونة، ثم محاولة تقطيع أشكال هندسية كالآتي:
-        مثلث قاعدته 1 سم وارتفاعه 4 سم.
-        مستطيل طوله 4 سم وعرضه 1 سم.
ثم يقوم بتلفيف هذه القطع بواسطة مؤخرة عود الثقاب على أساس لف شكل المثلث من جهة القاعدة.

نستخلص من خلال هذه التعليمة أن المهمة بالغة التعقيد: فمجرد إطلالة سريعة في مقرر مادة الرياضيات للسنة الثانية ابتدائي تطلعنا على أن تلميذ هذا المستوى لن يكون قادرا، في نهاية السنة، على أكثر من الاستئناس ببعض الأشكال الهندسية، مما يدعونا للتساؤل: كيف يمكن لهذا التلميذ، وهو يقرأ هذا النص، أن يستوعب مفاهيم من قبيل ارتفاع وقاعدة المثلث ؟ كيف يمكن لهذا المفهوم الانبناء في ظل غياب الشرط التاريخي اللازم ؟ إن تنزيله لأول مرة بهذه الطريقة، عبر نص قرائي تكميلي خارج مكون الرياضيات، لهو مبعث على مساءلة كتابنا المدرسي بشكل خاص، ومن خلاله منهاجنا التربوي بشكل عام، ومدى احتكامه إلى المعايير الإبستيمولوجية في تقديم المفاهيم. وبالتالي، إلى أي حد يبدو هذا المنهاج قادرا على زرع روح التفكير العلمي في ناشئتنا، في مرحلة جد حساسة من تاريخ بنيتها الذهنية ؟
التساؤل يعظم والإشكال يستفحل عندما نواصل قراءة هذا النص التكميلي لنكتشف أن المطلوب من المتعلم أن يحول ما قرأه إلى تطبيقات هندسية ؟! إذ كيف يمكن لمتعلم لم يستوعب نصا أن يحوله من مستوى القراءة إلى مستوى الفعل والتشكيل الهندسي ؟! كيف لمتعلم وجد نفسه فجأة، ولأول مرة، أمام مفاهيم هندسية من قبيل "الارتفاع"، "القاعدة"، "الطول"، «العرض"... أقحمت قسرا خارج تاريخه الذهني، أن يحولها إلى أشكال هندسية دقيقة القياس على ورقة وهو لا زال يحاول التموقع في فضاء قسمه ؟! إن الأمر هنا يتعلق بأعلى درجات تعميم المفاهيم، فالمعروف أن تطبيق المفهوم درجة متقدمة من تعميمه، لابد أن تسبقه مراحل الملاحظة والاكتشاف ثم التجريب والتحقق عبر مناولات ملموسة، وهو ما لم يتوفر لتلميذ السنة الثانية في مجال مفاهيم الهندسة.

ومن هذا المنطلق يبدو لنا غياب ذلك المنطق الصوري الذي تحدثنا عنه كأساس في بناء المعارف والمفاهيم. وهو الغياب الذي سجلناه كذلك بخصوص المنطق التاريخي، حين أكدنا على كون مفهوم الارتفاع والقاعدة وغيرهما هي مفاهيم أقحمت بجرأة غريبة في هذا النص القرائي دون سابق إخبار، فتلميذ السنة الثانية لم يدرك بعد أبسط خصائص مفهوم المثلث كشكل هندسي: يتكون من ثلاثة أضلاع، فكيف له أن يدرك خصائص أكثر تجريد من قبيل الارتفاع والقاعدة ؟! والنتيجة أن هذه الخصائص ستظل بالنسبة له بدون معنى، وسوف تؤثث ذاكرته دون أن تجد لها مقاما في بنيته الذهنية. ومن ثم، يستحيل تحويلها إلى رسوم هندسية باعتبار هذه الرسوم أعلى درجات تعميم مفهوم المثلث بكل خصائصه: الأضلاع، الارتفاع، القاعدة.



استنتاجات وحلول مقترحة

نستنتج أن إدراج هذا النص داخل مكون القراءة للسنة الثانية لم يخل من مجازفة، إذ لم يقم على الأسس العلمية والإبستيمولوجية الكافية. كما يبدو كذلك أن الأستاذ الذي سيقدم على تقديم هذا النص دون تصرف ديداكتيكي، بشكل يلائم مستوى متعلميه غير واع بالأسس الإبستيمولوجية للمعرفة مثلما أوردناها في التقديم النظري لهذه الدراسة، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل وبإلحاح: أي دور يمكن أن يقدمه أستاذ التعليم الابتدائي في بناء المفاهيم لدى الطفل المغربي؟ وبالتالي في زرع بذور التفكير العلمي لدى هذا الطفل؟ الأمر الذي يعطينا الشرعية في تساؤل آخر حول مستوى التكوين الأكاديمي والبيداغوجي لهذا الأستاذ ؟!  
إن الرهان على ترسيخ الثقافة العلمية في فضاءاتنا المدرسية، في أفق توجيه ثلثي تلامذتنا نحو الشعب العلمية، رهان لا يمكن كسبه إلا من خلال احترام المداخل الإبستيمولوجية لتشكل المعرفة العلمية التاريخي منها والصوري، وهو ما يقتضي:
«    إعادة النظر في المفاهيم المقدمة بمدرستنا الابتدائية وطريقة تقديمها، كما يقتضي بالضرورة إعادة النظر في مواصفات فئة التدريس بهذه المدرسة، وتمكينها من تكوين أساسي متين يجمع بين ما هو أكاديمي وما هو بيداغوجي. وفي هذا الإطار، نثمن طموح المخطط الاستعجالي في إلحاق مراكز التكوين بالتعليم الجامعي، حيث ضرورة مرور الطلبة الأساتذة بمسالك علوم التربية.
«    تأهيل فضاءاتنا المدرسية بشكل يجعلها تنمي في ناشئتنا آليات التفكير العلمي من ملاحظة واكتشاف وتجريب وتحقق. وقبل هذا وذاك، لابد من إعادة التفكير في الحياة المدرسية من أجل خلق مناخ للنقد وإعمال العقل، وذلك بانخراط الجميع: فاعلون تربويون، مجتمع مدني... في أفق صناعة اللحظة التاريخية الملائمة لتجاوز الاختلال والانفصام الواضح في مناهجنا التربوية بين الأنساق النظرية الطامحة لركوب ناصية العلم، وبين القوالب المادية الحسية الكفيلة بتحويل زخم النظرية إلى حقيقة سارية المفعول. فالأمر إذن يحيلنا على مطلب سوسيولوجي كبير، مفاده أنه لتوجيه تلامذتنا نحو الشعب العلمية الضامنة لكسب رهان التنمية، لابد من تغيير في النسق الثقافي لمجتمعنا من نسق يكرس قيم التقليد والحفظ والتعليم القائم على تأثيث الذاكرة، إلى نسق ثقافي أساسه النقد والتفكير العلمي الموجه بعملية التوليد المستمر للأسئلة، حيث لا تنمية بدون فكر ولا نهضة بدون عقل ناهض على حد تعبير المفكر والإبستيمولوجي المغربي الكبير محمد عابد الجابري.        





[1]  مجموعة من المؤلفين، مرشدي في اللغة العربية للسنة الثانية الابتدائية، منشورات أفريقيا الشرق، 2009.
[2]  موران إدغار، المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل، الفصل الثاني: مبادئ من أجل معرفة ملائمة، ترجمة لزرق عزيز والحجوجي منير، دار توبقال للنشر واليونسكو، ص 40.
[3]  عامر عبد الحق، عالم المفاهيم عند الطفل، مجلة الرسالة التربوية، الرباط، منشورات مركز تكوين مفتشي التعليم، العدد 17، 1984، ص 81، عن موسوعة روزنتال، ب. يودين، الموسوعة الفلسفية ترجمة سمير كرم، د الطبيعة ط 2، بيروت، 1980.
[4]  بنعبد العالي عبد السلام ويفوت سالم، درس الإبستيمولوجيا، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 1985، ص 57.
[5]  المرجع السابق، ص 58.