في نظرية المعرفة: الأسس و المؤاخذات
بقلم:خالد زروال
نستطيع أن نقول إن الميلاد "الرسمي" لنظرية المعرفة كان مع ظهور المشروع الكانطي لنقد العقل. لا يعني هذا أننا لا نستطيع أن نجد عند الفلاسفة السابقين على كانط بحوثا في المعرفة. كل ما نقصده أن السؤال المخصص لمبحث المعرفة سيظهر لأول مرة في تاريخ الفلسفة مع كانط. أراد كانط أن يطرق في الفلسفة و في ميدانها النظري، أي خارج الأخلاق و الجمال، أراد أن يطرق مشكلة واحدة هي مسألة المعرفة، مشكل المعرفة هو ما يقابل في التاريخ الفلسفي مشكل الوجود و مشكل القيم، والمعروف أن ذلك المشكل يبحث في وسائل المعرفة وتحديد الموضوعات التي تنطبق عليها تلك الوسائل لتقويم المعرفة وتأسيسها[1].
إن كل إشكالية عامة تقوم حول تصور أساس يرتبط بها، فإذا كان ذلك التصور بالنسبة للمنطق مثلا هو الزوج : صورة – مادة، وبالنسبة لمبحث الأنطولوجيا هو الزوج : جوهر – عرض، فإن التصور الأساس للإشكالية العامة لنظرية المعرفة هو الزوج : ذات – موضوع. كل نظرية من نظريات المعرفة حاولت أن تموقع المعرفة في علاقتها بهذا الزوج، وذلك بالرجوع إما إلى المنطق أو إلى السيكولوجيا أو إلى الانطولوجيا[2]. تتساءل نظرية المعرفة إذن عن إمكانية معرفة الذات للموضوع، وإن هي أثبتت تلك الإمكانية تبحث في أدواتها ثم في حدودها ومدى صلاحيتها، إنها تبحث في طبيعة المعرفة ووسيلتها و قيمتها.
فكيف تصورت هذه النظرية موضوعها "المعرفة"؟ وما هي حدود هذا التصور؟
ينقسم الفلاسفة في إطار نظرية المعرفة إلى اتجاهين أساسيين وسما، بشكل كبير، تاريخ هذه النظرية :
الاتجاه الأول، يربط المعرفة بعوامل تتصل بالذات باعتبارها مصدر كل معرفة ممكنة، ويجد هذا الاتجاه جذوره في الفكر اليوناني الذي رفع من قيمة الإنسان كذات واعية و مفكرة، كما نجد امتداداته مع عصر الأنوار، حيث سيشكل "مبدأ الذاتية" الاساس الفلسفي للحداثة، و حيث الذات المفكرة مركز الكون ومحددة لكل الاشياء من حولها، وهو الاتجاه الذي عرف بالعقلاني، والذي جعل من العقل مصدر كل معرفة ممكنة، ويمكن أن ندرج في هذا الاتجاه كل من ديكارت، ليبتز، تشو مسكي..
الاتجاه الثاني، وفي مقابل الأول، يرى أصل المعارف الحقيقية خارج ذواتنا، وعلينا أن نبحث عنها في الموضوعات من حولنا، وهو الاتجاه الذي عرف بالتجريبي، متأثرا بالفلسفة الوضعية، فالحقائق ينبغي اكتشافها عن طريق التجربة التي لا تركن إلى أوهام الذات وأفكارها المسبقة .
وبين هذين الاتجاهين يتموقع اتجاه ثالث، حاول أن يرجع أصل المعرفة إلى كلي طرفي الزوج : ذات – موضوع، وهو الاتجاه الذي يعتبر المعرفة انبناء ناتجا عن تفاعل الذات مع موضوع المعرفة، و لذلك سمي بالاتجاه البنائي ورائده السويسري "جان بياجيه"، والحقيقة أن هناك من يعتبر هذا الاتجاه امتدادا للمشروع الكانطي حول نظرية المعرفة في إطار ما سمي ب "النيو كانطية".
غير أن الحديث عن بياجيه، في نظر الكثيرين من الباحثين في مجال الإبستمولوجيا، حديث يدعو إلى إعادة النظر في ما كان يعرف بنظرية المعرفة و في نظرتها إلى المعرفة كموضوع للتفكير، ترى أي جديد حمله بياجيه في هذا الصدد؟
لقد حاول بياجيه أن يؤسس لنظرة جديدة إزاء المعرفة، نظرة حاولت البحث في الميكانيزم الفعلي الذي يخضع له إنتاج المعارف، وهو الأمر الذي لم تبحث فيه نظرية المعرفة طوال تاريخها، ذلك أن هذه النظرية ظلت، قبل أبحاث بياجيه، تتأمل من خارج الشروط القبلية التي تضمن إمكانية المعرفة، و أخذت تتحدث عن عملية المعرفة من خلال أسئلة لم تكن نابعة من صميم المعرفة ذاتها، فقسمت عناصرها إلى ذات عارفة ثم موضوع معرفي، وهو التقسيم الذي اعتبره "ألتوسير" وهميا لأنه تم من خارج المنطق الذي يحكم المعرفة، في هذا الصدد يقول ألتوسير:" نفترض هنا ذاتا و موضوعا وهميين يكون عليهما أن يأخذا الظروف الحقيقية والميكانيزم الفعلي لتاريخ إنتاج المعارف كي يخضعاهما لغايات دينية، أخلاقية وسياسية"[3] .
الأكيد، أن بياجيه، سيفطن إلى ما نبه إليه "ألتوسير"، وسيحاول تجاوز نظرية المعرفة التقليدية، باحثا في المنطق الذي يحكم المعرفة من الداخل في إطار نظرة سيكولوجية حول هذه المعرفة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح : إلى أي حد بقي بياجيه نفسه في مأمن من "الإيديولوجي"؟؟ كيف نفسر رفضه إدخال كل ما هو "اجتماعي" في تفسير انبناء المعرفة و تشكلها؟ هل يرجع ذلك فقط إلى الميكانيزم الداخلي لهذه المعرفة؟ أم أن الأمر يعود إلى اعتبارات أخرى من خارجها، اعتبارات خضعت هي الأخرى لما هو إيديولوجي ارتبط باللحظة التاريخية التي أفرزت بياجيه وأبحاثه حول المعرفة؟
أسئلة من بين أخرى، كثيرة، ستطرحها تأملات لاحقة حول المعرفة و خباياها، خاصة مع رواد "التفكيكية"، في إطار تشريح جينيا لوجي للمعرفة سيكشف الغطاء عن تلك الخبايا و رهانات السلطة التي تحكمها، على حد تعبير ميشيل فوكو[4].
[1] - عبد السلام بنعبد العالي و سالم يفوت،(1985)، درس الإبستيمولوجيا ، دار توبقال للنشر، البيضاء، ص. 11.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire