الجسد كموضوع سوسيولوجي:
ليس الجسد كما قد يتبادر إلى الذهن واقعا طبيعيا أو مادة واضحة بذاتها، وإنما هو نتاج ثقافي اجتماعي. فلا وجود للجسد سوى ضمن انتماءات ثقافية بلورها الإنسان، وضبط من خلالها سلوكات هذا الجسد وحركيته وفقا لتقاليد وعادات اجتماعية معينة. بل إن الكثير من الآليات الفيزيولوجية الإنسانية نجدها وثيقة الارتباط بالقواعد والقيم الاجتماعية المشتركة.
وبناء على ذلك فلقد مثل الجسد ولا يزال محور انتمائنا إلى هذا العالم وكذا إقحام العالم فينا، إذ من خلاله يتمكن الفرد من الحديث عن ذاته وعن العالم المحيط به. مما يجعل منه حدثا ثقافيا وبنية رمزية دالة تجمع ما بين الطبيعة والثقافة، الدال بالمدلول، ثم الوعي باللاوعي[1].
لذلك يبقى من الصعب الحديث عن الجسد دون استحضار ما يمكن أن نطلق عليه "بثقافة الجسد"، والتي نقصد بها مجمل التصورات والتمثلات والإدراكات الثقافية والإيديولوجية التي ينتقل فيها الجسد من بنيته البيولوجية المحضة، لكي يتحول إلى معطى ثقافي وإلى واقعة اجتماعية دالة. إذ لكل ثقافة طريقة ومنهج خاص في التعامل مع الجسد، يتماشى وكيفية تنظيم علاقتها بالأشياء وكذا تنظيمها للتفاعلات الاجتماعية.
فكما أن لكل مجتمع لغته فإن له جسده أيضا، ونعني بذلك تمثله الخاص لهذا الجسد وفقا لمجموعة من الرموز والقواعد والطقوس والتفاعلات التي يصبح فيها الجسد تشخيصا لمجموعة من الرموز الاجتماعية، إن لم نقل أنه يصير هو ذاته رمزا من الرموز الاجتماعية[2].
وفي خضم هذا المنظور يتجاوز الجسد بنيته البيولوجية، لكي يتحول إلى إنشاء اجتماعي محمل بدلالات ثقافية وإيديولوجية.
منذ العشرينات من القرن الماضي ظهر الاهتمام بالجسد كمعطى سوسيولوجي مع مارسيل موسmarcel Mauss فقد أكد الأهمية التي تكتسبها دراسة "إثنوغرافية" لوسائل الدمج التي تمارس على الجسد من قبل المجتمع، كلود ليفي ستروس[3] في تقديمه لكتاب "الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا " لمارسيل موس، يرى بأن تقنيات الجسد كانت تنبئ وتبشر بأكثر اهتمامات المدرسة الامريكية الأنثروبولوجية المعاصرة ممثلة في أعمال "مارغريت ميد"، ميشيل بيرلتو في كتابه "corps et Société " حاول أن يضع الأسس المعرفية لتأمل سوسيولوجي حول الجسد من حيث قدرته على التعبير عن المجتمع، كمنفذ للإطلال على العالم، من خلال مفاهيم الجسم الأداة- الجسم المعنى، أي الجسم كوسيط لترسيخ قيم نظام اجتماعي معين[4].
مارسيل موس في دراسته حول "تقنيات الجسد" يقترح تأمل الطريقة التي يستخدم بها الناس أجسادهم من مجتمع إلى آخر، ويؤكد أن هناك كم هائل من الحركات والأنشطة العادية للحياة اليومية تتجدر في نماذج سلوكات تستمد شكلها وقالبها من المجال الاجتماعي، وأنه ليست هناك أشكال طبيعية صرفة لأنشطة الجسد، حتى العواطف لا يمكن أن ندعي التعبير عنها بشكل طبيعي خالص، بل إنها كما ترسم على الجسد وتعبر عن نفسها من خلاله ليست إلا إنتاجات رمزية ترتبط بلحظة معينة من لحظات الحياة الاجتماعية[5].
وحسب زينب معادي، فإن بيير بورديو يعتبر أن الاستثمار الاجتماعي للجسد يجعل أشكال استخدامه وسيلة من وسائل التعبير عن بنيات وعلاقات اجتماعية ومرآة للتقابلات الاجتماعية، سواء تعلق الأمر بالفوارق بين الطبقات أو الفئات أو التمييز بين الجنسين، وفي نفس الوقت تدعيمها وتطبيعها أي إظهارها بمظهر التقابلات أو الفوارق التي تحتمها طبيعة الأشياء: فالتقابل بين الذكورة والأنوثة مثلا، يتجسد أو يتحقق في شكل استعمال الجسد أو اتخاد أوضاع في شكل من التصرفات والسلوكات، وفي أشكال من التقابلات مثل " الصرامة بالنسبة للرجل، والرقة بالنسبة للمرأة".
هكذا فالبناء الاجتماعي للجسد يعكس تقسيم العمل الجنسي وتقسيم العمل الاجتماعي، وهو بقدر ما يجعل الفوارق الاجتماعية تبدو طبيعية فهو كذلك يريد أن يجعل الفوارق الطبيعية تبريرا للفوارق الاجتماعية أو يحول الاختلافات البيولوجية إلى اختلافات في المكانة الاجتماعية[6].
الاستثمار الاجتماعي للجسد ليس في نهاية الأمر، حسب بورديو، إلا تعبيرا عن "ميثولوجيا سياسية" تحولت إلى استعداد مستمر، في شكل طريقة دائمة لاتخاذ أوضاع جسدية للكلام والمشي ومن تم للإحساس والتفكير.[7]
لقد ظل الجسد، كمعطى بيولوجي، مجالا لممارسة السلطة، ومنطلقا للتمييز بين الرجل والمرأة ومن تم أساسا لهذا التمييز في الأدوار الاجتماعية وفي مختلف أشكال الظهور في المجال، وبالتالي ظل الجسد مبررا لتكريس مختلف علاقات السلطة في المجتمع وعلى رأسها علاقة الرجل بالمرأة.
2.2.3. الجسد والسلطة:
سنعتمد في تحليلنا لعلاقة الجسد بالسلطة على تحليلات "ميشيل فوكو" الذي يعتبر، في نظر الكثيرين، سباقا إلى إثارة بعض الأفكار التي ستشكل أساسا ل "سوسيولوجيا الجسد".
يذهب «فوكو» إلى أن الجسد ليس مجرد كيان طبيعي، وإنما هو كيان ينتج اجتماعاً من خلال نظم المعرفة والسلطة، بحيث يصبح جسداً ليناُ طيعاً.
فوكو ومرلوبونتي عارضا التصور (الأكاديمي) الغربي السائد حول الجسد، باعتباره نظاماً فسيولوجيا موضوعياً مغلقاً، وكان التحدي الخاص بفلسفة كل منهما حول الجسد هو تقديم بديل لذلك التصور، وهو أنهما يركزان على السياق الاجتماعي- التاريخي Socio-historical للجسد، حيث يصوران الجسد كحامل للإشارات والسلوكيات، وينبغي فهمه كتعبير عن المخزون الثقافي العام[8].
لقد كان «فوكو» منشغلاً على مدار تحليلاته بالكشف عما يكبل الجسد، ويقيده، لأن ذلك في رأيه تكبيل للعقل، ففك أغلال الجسد من آليات التوجيه والنفي والترويض هو إطلاق سراح العقول من سراديب الحجر والزيف .
وقد عمل «فوكو» على تقديم تحليل علمي للجسد وفق منهجيات جديدة حيث فكك الآليات والنظم المتعددة التي ساهمت في إخضاع الجسد، إذ أن «فوكو» ينطلق من قضية أساسية، وهي أن الجسد كان عرضة لقوى متعددة ساهمت في إخضاعه وترويضه.
يعد «ميشيل فوكو» بحق المنظر الأهم للجسد في القرن العشرين، حيث كشف «فوكو» من خلال رؤاه ما بعد البنيوية الحضور الشامل للسلطة داخل الصياغات الخطابية Discursive formations المتعلقة بالجسد، إن أهمية الجسد لدى فوكو تصل لدرجة أنه يصف أعماله الفكرية بأنها تشكل «تاريخ أجساد» History of bodies وترصد الطريقة التي يتم من خلالها استثمار الأجساد مادياً وحيوياً[9].
لقد كان «فوكو» منشغلاً بفهم كيفية دخول الجسد إلى الخطاب السياسي كتمثيل للسلطة، وكيف تُمارس السلطة على الجسد، في المؤسسات المختلفة كالمدرسة والسجن والمصنع والمستشفى، بحيث يتحول الجسد إلى كائن منضبط.
إن القضية المحورية التي ينطلق منها «فوكو» هي رصد عملية تطبيع الجسد Normalization of the body ورصد المؤسسات التي تنتج وتفصل المعرفة العلمية المتعلقة بتطويع الجسد، بالإضافة إلى اهتمامه بدراسة كيف يتم تمثيل الجسد في الممارسات المختلفة بضبط وإدارة الكيان الإنساني[10].
[3]- كلود ليفي ستروس، عن معادي زينب، الأسرة المغربية بين الخطاب الشرعي والخطاب الشعبي، مرجع سابق، ص: 216.
[5] - مارسيل موس، عن معادي زينب، الجسد الأنثوي وحلم التنمية، إنها امرأة تذوب: قراءة في التصورات عن الجسد الأنثوي بمنطقة الشاوية، وقد اعتمدنا الصيغة الاليكترونية للكتاب: http://www.nesasy.org/pdf/zainabmaadi-2006.pdf
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire