درس القرآن الكريم، هل هو درس في التفسير أم شرح لغوي
للمفردات؟
ورد في موسوعة رونتال الفلسفية أن المفهوم هو شكل من
أشكال انعكاس العالم في العقل، يمكن به معرفة الظواهر والعمليات وتعميم جوانبها
وصفاتها الجوهرية، وهو نتاج معرفة متطورة تاريخيا ترتفع من الأدنى إلى الأعلى.
إننا نعتبر درس القرآن الكريم شكلا من أشكال المعرفة،
وبالتالي فهو لا يخرج عن هذا السياق الإبستيمولوجي الذي يحدد للمعرفة بشكل عام
منطقين اثنين في الانبناء والتشكل:
1. المنطق الأول، دياكروني تاريخي: ذلك أن المعرفة لها منبعها
وسيرورتها التاريخية، وهو المسار الإبستيمولوجي الذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار
أثناء تقديم أي معرفة للمتعلم.
2. المنطق الثاني، سانكروني بنيوي: يعتمد انطلاقا من لحظة تشكل
المعرفة تاريخيا، على أسس علمية عقلية قائمة على الملاحظة والاكتشاف، ثم الفهم
والاستيعاب، قبل التعميم.
فكيف يمكن تصور درس القرآن الكريم ديدكتيكيا في ضوء هذين
المنطقين؟ وبالتالي إلى أي حد يمكن اعتباره درسا في التفسير وليس مجرد شرح لغوي
للكلمات؟
في البداية، ينبغي التنبيه والتذكير بأن درس القرآن
الكريم هو انتقال من معرفة عالمة (النص القرآني بكل تجلياته وأسئلته البسيطة والمركبة)
إلى معرفة مبسطة تأخذ بعين الاعتبار قدسية هذا النص وعدم القدرة على التصرف فيه من
جهة، ومن جهة أخرى طبيعة الفئة المستهدفة في المرحلة الابتدائية وخصوصياتها
الإبستيمولوجية طبقا للمنطقين سالفي الذكر، وذلك يقتضي ما يلي:
●
إن استحضار المنطق التاريخي في
تقديم الدرس القرآني معناه الانطلاق من الأسئلة المطروحة في سياق إنتاج هذا النص،
بمعنى أن معرفة السياق الذي وردت فيه الآية القرآنية سيكون مدخلا إبستيمولوجيا
أساسيا لتقريب معنى هذه الآية من ذهن المتعلم، باعتبار هذا المعنى بدأ في التشكل
والانبناء في اللحظة التاريخية التي استوجبت نزول تلك الآية. وبالتالي فإننا هنا
أمام عملية في التفسير وليس مجرد شرح لغوي للمفردات، والاعتماد على مجرد هذا الشرح
يعني إبستيمولوجيا تقديم معرفة مبتورة من سياقات انبنائها، وبالتالي لن تكون معرفة
مبنية وإنما معرفة مؤثثة لذاكرة المتعلم لا معنى لها في ذهنه.
●
لكن الأسئلة السياقية التي وردت
فيها الآيات القرآنية نوعان: فهناك أسئلة مرتبطة بأحداث ووقائع وهي ما يعرف بأسباب
النزول، وأسئلة أخرى مرتبطة بمعطيات ميتا زمنية مقدسة من قبيل "آيات وردت في
موضوع القيامة والنار والجنة" (صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن). ومن ثم
يطرح السؤال: إذا كان للتفسير ما يبرره إبستيمولوجيا من الناحية التاريخية، فبأي
معنى وفي أي حدود؟
إن القرآن الكريم، باعتباره إجابة عن مجموعة من الأسئلة
البسيطة والعويصة، قد شكل معرفة عالمة كان منبعها هو نزول الآيات القرآنية الكريمة
وإجابتها عن تلك الأسئلة. لكن هذه الأجوبة، وكشأن أي معرفة عالمة "عرفت في
تفسيرها بعض التطور المرتبط والمحكوم بتسلسل المشاكل والقضايا، بمعنى أن هذه
المشاكل هي المحدد للتطور والتقدم". ARSAC GILBERT :
La transposition en mathématiques ، والنتيجة كانت تعددا في اتجاهات ومذاهب
التفسير. من ثم فإن إجراءات النقل الديدكتيكي تقتضي حصر درس تفسير القرآن الكريم، ليس
باعتباره أنتج معرفة عالمة تطورت عبر التاريخ مع اختزالها للتلميذ في لحظة واحدة،
بل إن احترام المنطق التاريخي الإبستيمولوجي وأسسه السيكولوجية يقتضي تقديم هذا
التفسير كما نشأ في منبعه تاريخيا كإجابة عن تلك الأسئلة المولدة للنص القرآني
التي أوجدها الله عز وجل للتمهيد لنزول القرآن. وبالتالي فاستحضار تلك الأسئلة
ضروري كما سبق الذكر لأنها جزء أساسي من معاني النص القرآني، سواء كانت أسئلة
زمنية أو مقدسة، لكن بما يلزم ذلك الاستحضار من التبسيط والتجريد من كل أشكال
التعقيد والاختلاف.
غير أن الانطلاق من السياق التاريخي لفهم النص القرآني -
أسباب النزول- ينبغي ألا يعتمد كأساس في بيان بعض الوقائع والأحكام، وإلا فهمها
المتعلم مقصورة على ما نزلت فيه، بل ينبغي التعامل معها كلحظة تاريخية يقف عندها
المتعلم ليكتشف، بشكل ذاتي، بداية تشكل المعنى قصد استيعابه وتعميمه فيما بعد،
وهنا يتجلى المنطق البنيوي لانبناء معاني الدرس القرآني. فهذا التعميم ببساطة هو
ما يمكن المتعلم من الانتقال بالمعاني القرآنية من اللحظة التاريخية التي ولدتها
(سبب النزول) إلى اللحظة التاريخية التي يعيشها (واقعه اليومي): "فالنص
القرآني العام الذي نزل بسبب خاص معين يشمل بنفسه أفراد السبب وغير أفراد السبب،
لأن عموميات القرآن لا يعقل أن توجه إلى شخص معين". (د. صبحي الصالح، مباحث
في علوم القرآن، ص 159). لذلك قال الأصوليون: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب.
خلاصات واستنتاجات
ü احترام
المنطق التاريخي لانبناء المعرفة يقتضي استحضار سياقات النص القرآني والأسئلة التي
يجيب عنها (أسباب النزول)، مع ضرورة الاقتصار على الأسئلة البسيطة والرجوع إليها
في منابعها الأولى.
ü ومن
هذا المنطلق ذاته، ينبغي الاقتصار على الأجوبة كما وردت عند منبع الأسئلة، أي كما
تشرحها السيرة النبوية الشريفة، دون الخوض في التطور المعرفي لعلم التفسير في
مساره التاريخي الكبير وما ولده من اختلافات ومذاهب.
ü إن
المنطق التاريخي يوازيه بالضرورة منطق سيكولوجي يعززه ويعاضده، ويؤكد على ضرورة
الاشتغال بشكل متدرج، مع التركيز على قضية واحدة. في هذا الصدد يقول ابن العربي:
"فإنك تعلم تفسير الفاتحة أم القرآن بحسب ما تنتهي إليك قدرتك فاجتهد"
(ابن العربي، قانون التأويل، ص 350، عن السلسلة البيداغوجية 8 – أحمد العمراوي وخالد
البقالي القاسمي – ديدكتيك التربية الإسلامية من الإبستيمولوجي إلى البيداغوجي).
ü إن
المنطق الصوري يقتضي الانطلاق من واقعة أو حادثة تاريخية (سبب النزول) لكن دون
ربطها بأفراد مجتمع تلك اللحظة، بل ينبغي مناقشتها للوصول إلى تعميم الأحكام على
سائر الأفراد والمجتمعات، وبالتالي ربطها بواقع التلميذ ومعيشه اليومي.
خاتمة
نستخلص مما سبق ما يبرر، من الناحية الإبستيمولوجية، كون
درس القرآن الكريم درسا في التفسير، لكن بالقدر الذي تسمح به تلك المرجعية
الإبستيمولوجية ذاتها وخلفيتها السيكولوجية، وذلك باحترام مدخلين أساسيين هما:
ü تجريد
ذلك التفسير ونزع الرواسب الذاتية عنه (dépersonnalisation).
ü تجريد
ذلك التفسير من سياقاته (décontextualisation) قصد تعميم الأحكام القرآنية على كل زمان ومكان.
المراجع
«
صبحي
الصالح، "مباحث في علوم القرآن"، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة العاشرة،
1977.
«
أحمد
العمراوي وخالد البقالي القاسمي، ديدكتيك التربية الإسلامية من الإبستيمولوجي إلى
البيداغوجي، السلسلة البيداغوجية 8، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء،
الطبعة الأولى، 1999.
«
عبد
السلام عبد العالي وسالم يفوت، درس الإبستيمولوجيا، دار توبقال للنشر، الدار
البيضاء.